فصل: (بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ):

قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْأَدَاءُ يَخْتَصُّ بِالْقول وَلِسَانُهُ غَيْرُ مُوفٍ وَالتَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَتِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ وَقَدْ بَطَلَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا، لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ قَدْ انْتَهَتْ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ):
لَمَّا ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ وَأَخَّرَهُ لِأَنَّ الْمَحَالَّ شُرُوطٌ وَالشَّرْطُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ التُّهْمَةَ تُبْطِلُ الشَّهَادَةَ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ» وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ مَرَّةً بِعَدَمِ الْعَدَالَةِ وَمَرَّةً بِعَدَمِ التَّمْيِيزِ مَعَ قِيَامِ الْعَدَالَةِ.
قولهُ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى) مُطْلَقًا سَوَاءٌ عَمِيَ قَبْلَ التَّحَمُّلِ أَوْ بَعْدَهُ فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ أَوْ لَا تَجُوزُ (وَقَالَ زُفَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُقْبَلُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ لِلسَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِي سَمْعِهِ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ.
وَتُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمَاعُ، وَمَا لَا يَكْفِي فِيهِ السَّمَاعُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ ثُمَّ عَمِيَ عِنْدَ الْأَدَاءِ إذَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ كَفَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ (وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ) وَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ (وَفِيهِ) أَيْ فِي التَّمْيِيزِ بِالنَّغْمَةِ (شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ) فَلَمْ تَقَعْ ضَرُورَةٌ إلَى إهْدَارِ هَذِهِ التُّهْمَةِ، بِخِلَافِ وَطْءِ الْأَعْمَى زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ النِّسَاءِ فَأُهْدِرَتْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ وَالِاكْتِفَاءُ بِالنِّسْبَةِ فِي تَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ الْمَشْهُودِ، عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ لَمْ تَقَعْ إلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ وَوَصِيِّ الْمَيِّتِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْحُدُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى لَا تُقْبَلُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ مَا تَقَدَّمَ يَكْفِي إذْ الرَّدُّ بِتُهْمَةٍ مَا فِي الْحُدُودِ لَا يَسْتَلْزِمُ الرَّدَّ بِمِثْلِهَا فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ تِلْكَ يُحْتَاطُ فِي دَرْءِ الْحُكْمِ فِيهَا.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى فَيَقول أَبُو يُوسُفَ هَذِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَجَازَ كَوْنُهُ كَانَ فِي حَدٍّ وَنَفْيِهِ، وَقَيَّدَ فِي الذَّخِيرَةِ قول أَبِي يُوسُفَ بِمَا إذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَقَارِ.
أَمَّا فِي الْمَنْقول فَأَجْمَعَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ.
وَاسْتُشْكِلَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّ الشُّهُودَ لَا يُشِيرُونَ إلَى أَحَدٍ وَتُقْبَلُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ فِيهِ يَعْرِفُونَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَيَقولونَ لَوْ رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ، وَالْأَعْمَى لَا يَعْرِفُهُ، إذْ لَوْ رَآهُ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى لَوْ قَالُوا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ لَمْ تُقْبَلْ.
وَأَيْضًا فَنَقول: كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا ضَرُورَةَ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ هَذَا.
قَالَ: فَلَوْ أَدَّى بَصِيرًا ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ شُرِطَ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَةِ الشَّهَادَةِ حُجَّةً عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُرَادُ لِلْقَضَاءِ فَمَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَالْعَمَى وَالْخَرَسُ وَالْجُنُونُ وَالْفِسْقُ يَمْنَعُ الْأَدَاءَ فَيَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَأَبُو يُوسُفَ قَاسَهُ بِمَا إذَا غَابَ الشَّاهِدُ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ مَاتَ.
قُلْنَا:
بِالْمَوْتِ انْتَهَتْ الشَّهَادَةُ وَتَمَّتْ بِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَإِنَّهُ مُبْطِلٌ لَهَا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ لَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَنُقِضَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ فِيهِ إشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَبِقولنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قول لِلشَّافِعِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ التُّهْمَةِ فِي الْإِشَارَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْ الْأَعْمَى لِأَنَّ فِي الْأَعْمَى إنَّمَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ فِي نِسْبَتِهِ وَهُنَا تَتَحَقَّقُ فِي نِسْبَتِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَدْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَأُمُورٍ أُخَرَ.

متن الهداية:
(قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ لَا يَلِي نَفْسَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَمْلُوكِ) أَيْ الرَّقِيقِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَحْمَدُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَهُوَ قول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قول عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُقْبَلُ عَلَى مِثْلِهِ لَا الْأَحْرَارِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْعِ عَدَمُ وِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا هُوَ إلَّا مَعْنًى ضَعِيفٌ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَةِ الْعَبْدِ وَتَمَامِ تَمَيُّزِهِ وَعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِعَارِضٍ يَخُصُّهُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ وَلَا خَلَلٍ فِي تَحَمُّلِهِ وَضَبْطِهِ فَلَا مَانِعَ.
وَأَمَّا ادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ فَلَمْ يَصِحَّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا.
وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إلَّا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ.
وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ شُرَيْحٌ كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ عِنْدَنَا وَهُوَ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَعَنْ مَالِكٍ تُقْبَل فِي الْجِرَاحِ إذَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِأَمْرٍ مُبَاحٍ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ أَنْ لَا تُقْبَلُ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَرُبَّمَا يَقْدَمُ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ.
فُرُوعٌ:
إذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً لِمَوْلَاهُ فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى عَتَقَ فَأَدَّاهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قُبِلَتْ، كَالصَّبِيِّ إذَا تَحَمَّلَ فَأَدَّى بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَذَا الَّذِي إذَا سَمِعَ إقْرَارَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَدَّى جَازَ.

متن الهداية:
(وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) لِقولهِ تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَلِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ، بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ لِأَنَّ الرَّدَّ لِلْفِسْقِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقولهِ تعالى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} اسْتَثْنَى التَّائِبَ.
قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيه وَهُوَ قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ، وَالْمُرَادُ بِتَوْبَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ مَعَهُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ؟ فِيهِ قولانِ فِي قول يُعْتَبَرُ لِقولهِ تعالى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وَقِيلَ لَا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ قَبْلَ شَهَادَتِكَ.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ كَانَ مِنْ الْعُبَّادِ وَحَالُهُ فِي الْعِبَادَةِ مَعْلُومٌ.
فَصَلَاحُ الْعَمَلِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوْبَةُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قوله تعالى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يَنْصَرِفُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ إلَى الْكُلِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً هَلْ يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ أَوْ إلَى الْأَخِيرَةِ؟ عِنْدَنَا إلَى الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ثَلَاثُ جُمَلٍ هِيَ قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ}، {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، {وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} وَالظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِ {وَلَا تَقْبَلُوا} أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْحَدِّ لِلْعَطْفِ مَعَ الْمُنَاسَبَةِ وَقَيْدِ التَّأْبِيدِ.
أَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَلِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مُؤْلِمٌ لِقَلْبِهِ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِ لِسَانِهِ كَمَا أَنَّهُ آلَمَ قَلْبَ الْمَقْذُوفِ بِسَبَبِ فِعْلِ لِسَانِهِ، بِخِلَافِ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحَدَّ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَصْلُحُ مَانِعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّغْرِيبُ سَبَبُ لِزِيَادَةِ الْوُقُوعُ لِأَنَّهُ لِغُرْبَتِهِ وَعَدَمِ مَنْ يَعْرِفُهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ أَحَدٍ يُرَاقِبُهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ لَهُ دَاعِيَةَ الزِّنَا أَوْسَعَ فِيهِ، وَكَذَا قَيْدُ التَّأْبِيدِ لَا فَائِدَةَ لَهُ إلَّا تَأْيِيدُ الرَّدِّ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً.
{وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَعْلِيلِ عَدَمِ الْقَبُولِ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى الَّذِينَ تَابُوا، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ إلَّا لِلْفِسْقِ وَيَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْبِيدِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَبُولِ بِالتَّوْبَةِ.
وَأَمَّا رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْكُلِّ قوله تَعَالَى فِي الْمُحَارَبِينَ {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إلَى قوله تعالى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} حَتَّى سَقَطَ عَنْهُمْ الْحَدُّ فَلِدَلِيلٍ اقْتَضَاهُ، وَهُوَ قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَإِنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى الْأَخِيرَةِ: أَعْنِي قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لَمْ يَبْقَ لِقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَائِدَةٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْعَذَابَ.
فَفَائِدَةُ قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} لَيْسَ إلَّا سُقُوطُ الْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّا إنَّمَا نَقول بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْكُلِّ، فَأَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا كَمَا يَقول هُوَ إنَّ عَوْدَهُ إلَى الْكُلِّ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا فَقَطْ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِمَا يُوجِبُ أَنَّ الرَّدَّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ فَكَانَ قِيَاسًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ.
لَا يُقَالُ: رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ يَنْفِي الْفَائِدَةَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ شَرْعًا أَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الْفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّا نَقول: كَوْنُ التَّوْبَةِ تُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُعْرَفُ عَقْلًا بَلْ سَمْعًا، وَذَلِكَ بِإِيرَادِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَهَذَا مِنْهُ، وَكَوْنُ آيَةٍ أُخْرَى تُفِيدُهُ لَا يَضُرُّ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ طَرِيقَ الْقُرْآنِ تَكْرَارُ الدَّوَالِّ خُصُوصًا إذَا كَانَ مَطْلُوبُ التَّأْكِيدِ {كَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وَقَدْ تَكَرَّرَ قوله تعالى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} لِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَفِي آية: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} إلَى قوله: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
وَفِي أُخْرَى {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} إلَى قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} وَفِي أُخْرَى: {إلَّا مَنْ تَابَ} إلَى قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} وَمَوَاضِعُ أُخْرَى عَدِيدَةٌ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنْ يُقَالَ فِي أَحَدِهَا قَدْ عُرِفَ هَذَا بِآيَةٍ أُخْرَى فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا إلَّا مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعِبَادِ لِيُؤَكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَعَسَى أَنْ لَا يَسْمَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِذَا تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهُ فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ الْآيَةَ سَمِعَ تِلْكَ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ سَمِعَ أُخْرَى فَكَانَ فِي تَعْدَادِهِ إفَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى نَصْبَ مَظِنَّةِ عِلْمِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ مَعَ تَأْكِيدِ جَانِبِ عَفْوِهِ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَك فَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَلَوْ تَرَكْنَا النَّظَرَ فِي ذَلِكَ كَانَ مُعَارَضًا بِمَا قَالَهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِهِ لَهُ: وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَجْلُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ مُجَرَّبًا فِي شَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا بِقَرَابَةٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» وَبِقولنَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ) وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبِينَ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي الْفَاسِقِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لَكِنَّ الَّذِينَ تَابُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أَيْ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ، وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا: أَيْ زَاجِرًا يَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ: أَيْ كَأَصْلِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، فَكَذَا مَا كَانَ تَمَامًا لَهُ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِ بَعْدَ الْحَدِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فَتَمَامُ حَدِّهِ يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةً) فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ شَهَادَتِهِ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ إذْ ذَاكَ، فَلَزِمَ كَوْنُ تَتْمِيمِ حَدِّهِ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ لَهُ.
وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُحَدُّ حَيْثُ تَوَقَّفَ حُكْمُ الْمُوجِبِ فِي الْعَبْدِ إلَى أَنْ أَمْكَنَ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ فِي الزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى الْإِمْكَانِ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ مُخَاطَبًا بِإِقَامَتِهِ أَصْلًا لِأَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ حَدَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ آخَرَ كَانَ بِلَا مُوجِبٍ، وَغَيْرُ الْمُوجِبِ لَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ خُصُوصًا فِي الْحَدِّ الْمَطْلُوبِ دَرْؤُهُ.
أَمَّا قَذْفُ الْعَبْدِ فَمُوجِبٌ حَالَ صُدُورِهِ لِلْحَدِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَمَامُهُ فِي الْحَالِ فَتَوَقَّفَ تَتْمِيمُهُ عَلَى حُدُوثِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فَرْقَ الْمُصَنِّفِ: هَذَا الْفَرْقُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فِي الدِّيَانَاتِ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى أَنْ لَا تُقْبَلَ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْكَافِرَ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ تَصِرْ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ بِالْعِتْقِ لَا يَسْتَفِيدُ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلُ وَقَدْ صَارَتْ عَدَالَتُهُ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ.
ثُمَّ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْجَوَابِ فِي الْعَبْدِ بِكَوْنِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْحَدِّ فِي قولهِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَدَّ حَتَّى عَتَقَ فَحُدَّ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا، وَلَكِنْ وَضَعَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ سِيقَ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ لَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ حُدَّ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ حُدَّ بَعْضَ الْحَدِّ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَبَعْضَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمَرَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: لَا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِّ، تَسْقُطُ إذَا أُقِيمَ أَكْثَرُهُ، تَسْقُطُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْحُكْمُ شَرْعًا بِكَذِبِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ» وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ لِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ فَتَكُونُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَقِيلَ الْمُرَادُ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهِرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمَنَافِعِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ) وَإِنْ عَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ (وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ) أَمَّا الْوَلَدُ مِنْ الرَّضَاعِ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لَهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْأَصْلُ فِيهِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تُقْبَلُ» إلَخْ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ قول شُرَيْحٍ قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَلَا الْأَبُ لِابْنِهِ، وَلَا الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ فِي الشَّيْءِ بَيْنَهُمَا لَكِنْ فِي غَيْرِهِ وَلَا الْأَجِيرُ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ وَلَا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ بِهِ وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، لَكِنَّ الْخَصَّافَ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ أَكَابِرُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَبِيرٌ فِي الْعِلْمِ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثِنَا صَالِحُ بْنُ زُرَيْقٍ وَكَانَ ثِقَةً: ثِنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الشَّامِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ» انْتَهَى.
وَقَدْ فَسَّرَ فِي رِوَايَةِ شُرَيْحٍ أَمْرَ الشَّرِيكِ.
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ شَهَادَةَ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ وَذِي الْغِمْرِ عَلَى أَخِيهِ وَشَهَادَةَ الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَأَجَازَهَا لِغَيْرِهِمْ».
قَالَ أَبُو دَاوُد: الْغَمْرُ الشَّحْنَاءُ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَعَنْهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ تَابَعَهُ غَيْرُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَرَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ فِي ابْنِ مَاجَهْ وَآدَمُ بْنُ فَائِدٍ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الْقَانِعَ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ حُدَّا، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ. وَلَا مُجَرَّبٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَلَا الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ» انْتَهَى.
وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيِّ، وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ: وَالْغَمْرُ الْعَدَاوَةُ انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغَمْرُ الْعَدَاوَةُ، وَالْقَانِعُ التَّابِعُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ كَالْخَادِمِ لَهُمْ.
قَالَ: يَعْنِي وَيَطْلُبُ مَعَاشَهُ مِنْهُمْ.
وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ فِي دِينِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ.
فَإِذَا ثَبَتَ رَدُّ الْقَانِعِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَالْوَلَدُ وَالْوَالِدُ وَنَحْوُهُمَا أَوْلَى بِالرَّدِّ.
لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ فَيَثْبُتُ حِينَئِذٍ رَدُّ شَهَادَتِهِمْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورِ فِيه: «وَلَا ظَنِينَ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ» وَإِنْ كَانَ رَاوِيهِ مُضَعَّفًا.
إذْ لَيْسَ الرَّاوِي الضَّعِيفُ كُلُّ مَا يَرْوِيهِ بَاطِلٌ إنَّمَا يُرَدُّ بِتُهْمَةِ الْغَلَطِ لِضَعْفِهِ، فَإِذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ أَنَّهُ أَجَادَ فِي هَذَا الْمَتْنِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ فَتَكُونُ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِكَوْنِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ كَنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَجُزْ شَرْعًا وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهِمْ، وَعَلَى هَذَا كَانَ شُرَيْحٌ حَتَّى رَدَّ شَهَادَةَ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ شَهِدَ مَعَ قَنْبَرٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ «هُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ: نَعَمْ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنْ ائْتِ بِشَاهِدٍ آخَرَ، فَقِيلَ عَزَلَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ وَزَادَ فِي رِزْقِهِ. فَقِيلَ رَجَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى قولهِ، وَقولهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالتِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَأْكُلُ مَعَهُ وَفِي عِيَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً، لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ إجَارَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَخَلَتْ مَنْفَعَتُهُ الَّتِي هِيَ الْأَدَاءُ فِي أُجْرَتِهِ فَيَكُونُ مُسْتَوْجِبًا الْأَجْرَ بِهَا فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ مُوجِبًا تَمْلِيكَ مَنَافِعِهِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ حَيْثُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا تَمْلِيكَ مَنَافِعِهِ بَلْ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ لَهُ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ فَافْتَرَقَا.
وَفِي الْعُيُونِ: قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا فَشَهِدَ لَهُ الْأَجِيرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا فَشَهِدَ فَلَمْ يَعْدِلْ حَتَّى ذَهَبَ الشَّهْرُ ثُمَّ عَدَلَ قَالَ أُبْطِلُهَا كَرَجُلٍ شَهِدَ لِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَلَوْ شَهِدَ وَلَمْ يَكُنْ أَجِيرًا ثُمَّ صَارَ أَجِيرًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ فَإِنِّي أُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ حَتَّى بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ ثُمَّ أَعَادَ الشَّهَادَةَ جَازَتْ، كَالْمَرْأَةِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا تَجُوزُ.
وَمَا فِي زِيَادَاتِ الْأَصْلِ مِنْ قولهِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ حَمَلَ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا حَمَلَ مَا فِي كِتَابِ كَفَالَةِ الْأَصْلِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ مُشَاهَرَةً وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.اهـ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأُسْتَاذِ لِلتِّلْمِيذِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَجِيرِ فَمَقْبُولَةٌ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُقْبَلُ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ وَلِهَذَا يَجْرِي الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا كَمَا فِي الْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ عَادَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ) وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الزَّوْجَةِ أَوْ الزَّوْجِ مَمْلُوكًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ، وَبِقولنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لِأَنَّ لَهَا حَقًّا فِي مَالِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لَهَا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ.
وَجْهُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ: أَيْ كُلُّ يَدٍ فِي حَيِّزٍ غَيْرِ حَيِّزِ الْأُخْرَى فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْهُ مِنْ حَازَ الشَّيْءَ مَنَعَهُ فَلَا اخْتِلَاطَ فِيهَا وَلِهَذَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ لَأَنْ يَنْتَفِعَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ.
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ عَادَةً وَصَارَ كَالْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ بِمَالٍ لَهُ عَلَى آخَرَ تُقْبَلُ مَعَ تَوَهُّمِ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي مَنْفَعَتِهِ.
وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ» وَقَدْ سَمِعْتَ أَنَّهُ مِنْ قول شُرَيْحٍ وَمَرْفُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَصٌّ كَفَى الْمَعْنَى فِيهِ، وَإِلْحَاقُهُ بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِجَامِعِ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ فِي الْمَنَافِعِ حَتَّى يُعَدَّ كُلٌّ غَنِيًّا بِمَالِ الْآخَرِ.
وَلِذَا قَالَ تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} قِيلَ بِمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنَافِعِ، وَالِانْبِسَاطُ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، بَلْ قَدْ يُعَادِي أَبَوَيْهِ لِرِضَا زَوْجَتِهِ وَهِيَ لِرِضَاهُ، وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَصْلُ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَنْهَا تَثْبُتُ فَيَلْحَقُ بِالْوِلَادِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى اتِّصَالِ الْمَنَافِعِ كَمَا أَعْطَى كَسْرَ بَيْضِ الصَّيْدِ حُكْمَ قَتْلِ الصَّيْدِ عِنْدَنَا، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا زَوْجِيَّةَ.
وَفِي الْمُحِيطِ: لَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِمُعْتَدَّتِهِ مِنْ رَجْعِيٍّ وَلَا بَائِنٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ.
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ فَارْتَفَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ فَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رُدَّتْ لِفِسْقٍ ثُمَّ تَابَ وَصَارَ عَدْلًا وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا رَدَّهَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ شَرْعًا فَلَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ إذَا رُدَّتْ ثُمَّ أُعْتِقَ وَأَسْلَمَ وَبَلَغَ وَأَعَادَهَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تُقْبَلُ كَالرَّدِّ لِلْفِسْقِ.
قُلْنَا: رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لَا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الرَّدِّ، فَإِذَا صَارُوا أَهْلًا تُقْبَلُ.
وَلَوْ قِيلَ الرَّدُّ فِي الْفِسْقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِكَذِبِهِ بَلْ لِمُجَرَّدِ تُهْمَتِهِ بِهِ، وَبِالْإِعَادَةِ فِي الْعَدَالَةِ تَرْتَفِعُ تُهْمَةُ كَذِبِهِ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ بِعَيْنِهَا فَيَجِبُ قَبُولُهَا احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ، فَصَارَ الْحَاصِلُ: كُلُّ مَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى وَزَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا تُقْبَلُ إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، إلَّا الْعَبْدُ إذَا شَهِدَ فَرُدَّ وَالْكَافِرُ وَالْأَعْمَى وَالصَّبِيُّ إذَا شَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمْ فَرُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ وَأَسْلَمَ وَأَبْصَرَ وَبَلَغَ فَشَهِدُوا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا تُقْبَلُ وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا سِوَاهُمْ، وَتُقْبَلُ لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَأَبِيهَا وَلِزَوْجِ بِنْتِهِ وَلِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَلِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَلِأُخْتِ امْرَأَتِهِ.

متن الهداية:
(وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ مِنْ وَجْهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعَى (وَلَا لِمُكَاتَبِهِ) لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ، وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَمِنْ وَجْهٍ إذَا كَانَ، وَلِأَنَّ الْحَالَ: أَيْ حَالَ مَالِ الْعَبْدِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْغُرَمَاءِ بِسَبَبِ بَيْعِهِمْ الْمَالَ فِي دَيْنِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَوْلَى بِسَبَبِ قَضَائِهِ دَيْنَهُ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
وَقولهُ لِمَا قُلْنَا: يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَبِي الْمَوْلَى وَابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ لِهَؤُلَاءِ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمَمْلُوكِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ تُقْبَلَ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةٌ لِسَيِّدِهِ لَكِنْ مَنَعُوهُ لِلَفْظِ النَّصِّ السَّابِقِ.

متن الهداية:
(وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا) بِخِلَافِ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا حَيْثُ تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا وَلِذَا قَالُوا: لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، لِأَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ تُزَادَ الشَّهَادَةُ بِمَا كَانَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِسْوَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ.

متن الهداية:
(وَتَقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ) لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ وَمَنَافِعَهَا مُتَبَايِنَةٌ وَلَا بُسُوطَةَ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ) قِيلَ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ السَّلَفِ: مَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ، وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ التُّهْمَةِ لِأَنَّهُ لَا بُسُوطَةَ وَلَيْسَ مَظِنَّةً مُلْزِمَةً لِلْإِلْفِ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَكُلُّ قَرَابَةٍ غَيْرُ الْوِلَادِ كَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَغَيْرِهِمَا كَالْأَخِ تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ) وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ، وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ) وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ تَعَمُّدًا لِذَلِكَ فِي تَزْيِينِهِ وَتَكْسِيرِ أَعْضَائِهِ وَتَلْيِينِ كَلَامِهِ كَمَا هُوَ صِفَتُهُنَّ لِكَوْنِ ذَلِكَ مَعْصِيَةً.
رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ» يَعْنِي الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ، فَكَيْفَ إذَا تَشَبَّهَ بِهِنَّ فِيمَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ خِلْقَةً وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.

متن الهداية:
(وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) لِأَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةُ» (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ) لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ (وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ) لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي (وَلَا مَنْ يُغْنِي لِلنَّاسِ) لِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ. (وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ) لِلْفِسْقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ، فَأَطْلَقَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ، فَوَرَدَ أَنَّهُ تَكْرَارٌ لِعِلْمِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ قولهِ: مُغَنِّيَةٍ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ اسْمَ مُغَنِّيَةٍ وَمُغَنٍّ إنَّمَا هُوَ فِي الْعُرْفِ لِمَنْ كَانَ الْغِنَاءُ حِرْفَتَهُ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَالَ؛ أَلَا تَرَى إذَا قِيلَ مَا حِرْفَتُهُ أَوْ مَا صِنَاعَتُهُ يُقَالُ مُغَنٍّ كَمَا يُقَالُ خَيَّاطٌ أَوْ حَدَّادٌ، فَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ هُنَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ الْمُؤَنَّثَ بِهِ لِيُوَافِقَ لَفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَاتِ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَنِّيَاتِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لِوَصْفِ التَّغَنِّي لَا لِوَصْفِ الْأُنُوثَةِ وَلَا لِلتَّغَنِّي مَعَ الْأُنُوثَةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ وَصْفَ الِاشْتِقَاقِ هُوَ الْعِلَّةُ فَقَطْ لَا مَعَ زِيَادَةٍ أُخْرَى.
نَعَمْ هُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَفْحَشُ لِرَفْعِ صَوْتِهَا وَهُوَ حَرَامٌ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّغَنِّي لِلَّهْوِ أَوْ لِجَمْعِ الْمَالِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَفْظُ النَّائِحَةِ صَارَ عُرْفًا لِمَنْ جَعَلَتْ النِّيَاحَةَ مُكْسِبَةً، وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ اتَّخَذَ التَّغَنِّي صِنَاعَةً يَأْكُلُ بِهَا لَا مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِنَاعَتَهُ، وَلِذَا عَلَّلَهُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ.
وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْغِنَاءَ فِي حَقِّهِنَّ مُطْلَقًا حَرَامٌ لِرَفْعِ صَوْتِهِنَّ وَهُوَ حَرَامٌ فَلِذَا أَطْلَقَ فِي قولهِ مُغَنِّيَةٍ، وَقَيَّدَ فِي غِنَاءِ الرِّجَالِ بِقولهِ لِلنَّاسِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قولهُ مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ لَا يَخُصُّ الرِّجَالَ لِأَنَّ مَنْ تُطْلَقُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً فَضْلًا عَنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا، وَكَوْنُ صِلَتِهَا وَقَعَتْ بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ فِي قولهِ يُغَنِّي بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ لَا يُوجِبُ خُصُوصَهُ بِالرِّجَالِ لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي ضَمِيرِهَا مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى التَّأْنِيثِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ.
فَإِنْ قُلْت: تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْمَعُ النَّاسِ عَلَى كَبِيرَةٍ يَقْتَضِي أَنَّ التَّغَنِّي مُطْلَقًا حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ مُفَادُهُ بِالذَّاتِ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ بِالذَّاتِ لِأَنَّ كَوْنَ الِاسْتِمَاعِ مُحَرَّمًا لَيْسَ إلَّا لِحُرْمَةِ الْمَسْمُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا تَغَنَّى بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ بَلْ نَفْسَهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْوَحْشَةَ لَا يُكْرَهُ.
وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ إذَا فَعَلَهُ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ نَظْمَ الْقَوَافِي وَيَصِيرَ فَصِيحَ اللِّسَانِ.
وَقِيلَ وَلَا يُكْرَهُ لِاسْتِمَاعِ النَّاسِ إذَا كَانَ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ لَهْوٍ بِالنَّصِّ فِي الْعُرْسِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَنِّي لِإِسْمَاعِ نَفْسِهِ وَلِدَفْعِ الْوَحْشَةِ خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ.
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُكْرَهُ، إنَّمَا يُكْرَهُ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ احْتِجَاجًا بِمَا عَنْ أَنْسَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ يَتَغَنَّى، وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ كَرِهَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَيَحْمِلُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ الْأَشْعَارَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْغِنَاءِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرُوفِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا» وَإِنْشَادُ الْمُبَاحِ مِنْ الْأَشْعَارِ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَمِنْ الْمُبَاحِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صِفَةُ امْرَأَةٍ مُرْسَلَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا حَيَّةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِلًا بِتَعْمِيمِ الْمَنْعِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ التَّغَنِّي الْمُحَرَّمَ هُوَ مَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا لَا يَحِلُّ كَصِفَةِ الذَّكَرِ وَالْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ الْحَيَّةِ وَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ إلَيْهَا وَالدُّوَيْرَاتِ وَالْحَانَاتِ وَالْهِجَاءِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ إذْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ هِجَاءَهُ لَا إذَا أَرَادَ إنْشَادَ الشِّعْرِ لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ أَوْ لِتَعَلُّمِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مَا سَلَفَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ إنْشَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ:
قَامَتْ تُرِيكَ رَهْبَةً أَنْ تَهْضِمَا ** سَاقًا بَخَنْدَاةٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا

وَإِنْشَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
إنْ يَصْدُقُ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا

لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً، فَلَوْلَا أَنَّ إنْشَادَ مَا فِيهِ وَصْفُ امْرَأَةٍ كَذَلِكَ جَائِزٌ لَمْ تَقُلْهُ الصَّحَابَةُ، وَمِمَّا يَقْطَعُ بِهِ فِي هَذَا قول كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبِينِ إذْ رَحَلُوا ** إلَّا أَغَنَّ غَضِيضُ الطَّرَفِ مَكْحُولُ

تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظُلَمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ ** كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ

وَكَثِيرٌ فِي شِعْرِ حِسَانَ مِنْ هَذَا كَقولهِ وَقَدْ سَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
تَبَلَتْ فُؤَادَك فِي الْمَنَامِ خَرِيدَةٌ ** تَسْقِي الضَّجِيعَ بِبَارِدٍ بَسَّام

فَأَمَّا الزُّهْرِيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمُتَضَمَّنَةُ فِي وَصْفِ الرَّيَاحِينِ وَالْأَزْهَارِ وَالْمِيَاهِ الْمُطْرِبَةِ كَقول ابْنِ الْمُعْتَزِّ:
سَقَاهَا بِغَابَاتٍ خَلِيجٌ كَأَنَّهُ ** إذَا صَافَحَتْهُ رَاحَةُ الرِّيحِ مُبْرِدُ

يَعْنِي سَقَى تِلْكَ الرِّيَاضِ، وَقولهُ:
وَتَرَى الرِّيَاحَ إذَا مَسَحْنَ غَدِيرَهُ ** صَقَلْنَهُ وَنَفَيْنَ كُلَّ قَذَاةِ

مَا إنْ يَزَالُ عَلَيْهِ ظَبْيٌ كَارِعًا ** كَتَطَلُّعِ الْحَسْنَاءِ فِي الْمِرْآةِ

فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَلَى هَذَا.
نَعَمْ إذَا قِيلَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَاهِي امْتَنَعَ وَإِنْ كَانَ مَوَاعِظَ وَحِكَمًا لِلْآلَاتِ نَفْسِهَا لَا لِذَلِكَ التَّغَنِّي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْمُغَنِّي: الرَّجُلُ الصَّالِحُ إذَا تَغَنَّى بِشَعْرٍ فِيهِ فُحْشٌ لَا تَبْطُلُ عَدَالَتُهُ.
وَفِي مُغْنِي ابْنِ قُدَامَةَ: الْمَلَاهِي نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْآلَاتُ الْمُطْرِبَةُ بِلَا غِنَاءٍ كَالْمِزْمَارِ وَالطُّنْبُورِ وَنَحْوِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ».
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مُبَاحٌ وَهُوَ الدُّفُّ فِي النِّكَاحِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا كَانَ مِنْ حَادِثِ سُرُورٍ.
وَيُكْرَهُ غَيْرُهُ لِمَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ بَعَثَ يَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ عَمَدَ بِالدُّرَّةِ.
وَفِي الْأَجْنَاسِ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ الَّذِي يَتَرَنَّمُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فَأَبَاحَهَا قَوْمٌ وَحَظَرَهَا قَوْمٌ.
وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَتْ الْأَلْحَانُ لَا تُخْرِجُ الْحُرُوفَ عَنْ نَظْمِهَا وَقَدْرِ ذَوَاتِهَا فَمُبَاحٌ، وَإِلَّا فَغَيْرُ مُبَاحٍ، كَذَا ذُكِرَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ الْأَذَانِ مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّلْحِينَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ تَغْيِيرِ مُقْتَضَيَاتِ الْحُرُوفِ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا التَّفْصِيلِ.
وَنَقَلْنَا هُنَاكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالتَّلْحِينِ وَقَدْ أَجَابَ بِالْمَنْعِ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: أَيُعْجِبُكَ أَنْ يُقَالَ لَك يَا مُوحَامَدُ؟ هَذَا وَأَمَّا النَّائِحَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا أَيْضًا فِي الْعُرْفِ لِمَنْ اتَّخَذَتْ النِّيَاحَةَ مُكْسِبَةً، فَأَمَّا إذَا نَاحَتْ لِنَفْسِهَا فَصَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ: لَمْ يَرُدَّ النَّائِحَةَ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَتِهَا بَلْ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَةِ غَيْرِهَا، اتَّخَذَتْ ذَلِكَ مُكْسِبَةً لِأَنَّهَا ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً وَهِيَ الْغِنَاءُ لِأَجْلِ الْمَالِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَرْتَكِبَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهَا مِنْ الْغِنَاءِ وَالنُّوحِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا عَلِمْت، لَكِنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ لِلنَّاسِ أَوْ لَا.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَعَنَ اللَّهُ الصَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ وَالشَّاقَّةَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» وَهُمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّيَاحَةَ وَلَوْ فِي مُصِيبَةِ نَفْسِهَا مَعْصِيَةٌ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهَا لِذَلِكَ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الشُّهْرَةِ لِيَصِلَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهَا لِلنَّاسِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَهُوَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ فِي قولهِ: وَلَا مُدْمِنَ لِلشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ، يُرِيدُ شُرْبَ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَمْرًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَلَفْظُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ: وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ خَمْرٍ، وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ السُّكْرِ.
يُرِيدُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ خَمْرًا، فَقَالَ هَذَا الشَّارِحُ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَانُ فِي الْخَمْرِ، وَهَذِهِ الْأَشْرِبَةُ: يَعْنِي الْأَشْرِبَةَ الْمُحَرَّمَةَ لِسُقُوطِ الْعَدَالَةِ مَعَ أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ بِلَا قَيْدِ الْإِدْمَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْخَصَّافُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ الْإِدْمَانَ، لَكِنْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ كَمَا سَمِعْت فَمَا هُوَ جَوَابُهُ؟ هُوَ الْجَوَابُ فِي تَقْيِيدِ الْمَشَايِخِ بِكَوْنِ النِّيَاحَةِ لِلنَّاسِ، ثُمَّ هُوَ نَقَلَ كَلَامَ الْمَشَايِخِ فِي تَوْجِيهِ اشْتِرَاطَ الْإِدْمَانِ أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لِيَظْهَرَ عِنْدَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ شَرِبَهَا سِرًّا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَلَمْ يَتَنَفَّسْ فِيهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَذَا الَّتِي نَاحَتْ فِي بَيْتِهَا لِمُصِيبَتِهَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهَا لِعَدَمِ اشْتِهَارِ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ، وَانْظُرْ إلَى تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِدْمَانِ بِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِلَا إدْمَانٍ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أَدْمَنَ حِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُرْتَكِبُ مُحَرَّمِ دِينِهِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، بِخِلَافِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ تَنُوحُ لِلنَّاسِ لِظُهُورِهِ حِينَئِذٍ فَتَكُونُ كَاَلَّذِي يَسْكَرُ وَيَخْرُجُ سَكْرَانَ وَتَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ.
وَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي يُتَّهَمُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْإِدْمَانَ بِنِيَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَشْرَبَ مَرَّةً أُخْرَى، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِصْرَارِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَذْكُرُ رَدَّ شَهَادَةِ مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَشْرَبَ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَالْمُدَارَاةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهَا حُكْمُ الْقَاضِي لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً لَا خَفِيَّةً لِأَنَّهَا مَعْرِفَةٌ وَالْخَفِيُّ لَا يُعْرَفُ وَالظُّهُورُ بِالْإِدْمَانِ الظَّاهِرِ.
نَعَمْ بِالْإِدْمَانِ الظَّاهِرِ يُعْرَفُ إصْرَارُهُ، لَكِنَّ بُطْلَانَ الْعَدَالَةِ لَا يَتَوَقَّفُ فِي الْكَبَائِرِ عَلَى الْإِصْرَارِ، بَلْ أَنْ يَأْتِيَهَا وَيَعْلَمَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّغَائِرِ وَقَدْ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا شَرْحُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ فَلِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً، وَهَذَا كَأَنَّهُ بِالْخَاصِّيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ.
وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْمُغَفَّلِ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لِصُعُودِ سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ صُعُودِ السَّطْحِ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ يَكْثُرُ مِنْهُ لِهَذِهِ الدَّاعِيَةِ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ إلَى الشَّيْءِ كَالْحَرْبِ فِي اقْتِضَاءِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ كَمَا فِي لِعْبِ الشِّطْرَنْجِ، فَإِنَّهُ يُشَاهَدُ فِيهِ دَاعِيَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ حَتَّى أَنَّهُمْ رُبَّمَا يَسْتَمِرُّونَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ لَا يَسْأَلُونَ عَنْ أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ وَجْهٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الشَّيْطَانِ.
وَالْأَوْجَهُ أَنَّ اللَّعِبَ بِالطُّيُورِ فِعْلٌ مُسْتَخَفٌّ بِهِ يُوجِبُ فِي الْغَالِبِ اجْتِمَاعًا مَعَ أُنَاسٍ أَرَاذِلَ وَصُحْبَتَهُمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ.
هَذَا، وَفِي تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ كَلَامٌ، فَقِيلَ: هِيَ السَّبْعُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَهِيَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ الرِّبَا، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ فَذَكَرهَا وَفِيهَا السِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ» وَفِيهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقول الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا» الْحَدِيثَ.
وَقَدْ عَدَّ أَيْضًا مِنْهَا السَّرِقَةَ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ» وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ مَا فِيهِ حَدٌّ، وَقِيلَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ مَا كَانَ حَرَامًا لَعَيْنِهِ.
وَنُقِلَ عَنْ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّهَا مَا كَانَ حَرَامًا مَحْضًا مُسَمًّى فِي الشَّرْعِ فَاحِشَةً كَاللِّوَاطَةِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ بِهَا لَكِنْ شُرِعَ عَلَيْهَا عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، إمَّا فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَا تَسْقُطُ عَدَالَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ بِنَفْسِ الشُّرْبِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، إلَّا إذَا دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تَزُولُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَهَذَا أَوْلَى، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ الْكَبَائِرِ، فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ الْقول بِأَنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهِ حَدٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ قَالَ: وَأَصْحَابُنَا لَمْ يَأْخُذُوا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَنَوْا عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا مَا كَانَ شَنِيعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُنَابَذَةٌ لِلْمُرُوءَةِ وَالْكَرَمِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَرْفُضُ الْمُرُوءَةَ وَالْكَرَمَ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ عَدَمِ الِانْضِبَاطِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ أَيْضًا.
وَمَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: الْعَدْلُ مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا حَتَّى لَوْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ.
وَفِي الصَّغَائِرِ الْعِبْرَةُ لِلْغَلَبَةِ لِتَصِيرَ كَبِيرَةً حَسَنٌ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَدَبِ الْقَاضِي لِعِصَامٍ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِزَوَالِ الْعَدَالَةِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ يَحْتَاجُ إلَى الظُّهُورِ، فَلِذَا شَرَطَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ الْإِدْمَانَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَجْلِسُ مَجْلِسَ الْفُجُورِ وَالْمَجَانَةِ عَلَى الشُّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَهُ بِهِمْ وَتَرْكَهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يُسْقِطُ عَدَالَتَهُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: وَكَذَا الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَالْحَثُّ عَلَيْهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مِئْزَرٍ) لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ) وَفِي الذَّخِيرَةِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَنْ مَشَى فِي الطَّرِيقِ بِسَرَاوِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَلَيْسَ لِلْحُرْمَةِ بَلْ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ.

متن الهداية:
(أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا أَوْ يُقَامِرُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ).
لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا، فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا.
وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرِّبَا مَشْهُورًا بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا)، إلَى قولهِ: (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ) أَمَّا أَكْلُ الرِّبَا فَكَثِيرٌ أَطْلَقُوهُ، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِهِ فَقِيلَ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ لَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا لَمْ يُقْبَلْ شَاهِدٌ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ كُلَّهَا فِي مَعْنَى الرِّبَا وَقَلَّ مَنْ يُبَاشِرُ عُقُودَ الْبِيَاعَاتِ وَيَسْلَمُ دَائِمًا مِنْهُ.
وَقِيلَ لِأَنَّ الرِّبَا لَيْسَ بِحَرَامٍ مَحْضٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا مَعَ ذَلِكَ فَكَانَ نَاقِصًا فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً.
وَالْمَانِعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إمْكَانِ ارْتِكَابِ شَهَادَةِ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَالدَّالُّ عَلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ حَيْثُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَرَّةٍ.
وَقِيلَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ كَانَ الْوَاقِعُ لَيْسَ إلَّا تُهْمَةَ أَكْلِ الرِّبَا وَلَا تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِهِ.
وَهَذَا أَقْرَبُ وَمَرْجِعُهُ إلَى مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ تَقْيِيدِ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِدْمَانِ.
وَأَمَّا قولهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ مَحْضٍ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ.
وَالدَّالُّ عَلَى تَجْوِيزِ شَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهُ يَكْفِي كَوْنُهُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ دِينِهِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَ الْفَاسِقُ وَجِيهًا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِبُعْدِهِ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ لِوَجَاهَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ لَمْ يَرْتَضِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ قوله تعالى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالرِّبَا لَمْ يَخْتَصَّ بِعَقْدٍ عَلَى الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فِيهِ تَفَاضُلٌ أَوْ نَسِيئَةٌ، بَلْ أَكْثَرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَنَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا بِسَبَبِ إقْرَاضِهِمْ الْمِقْدَارَ كَالْمِائَةِ وَغَيْرِهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ إلَى أَجَلٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ فِيهِ أَرْبَى عَلَيْهِ فَتَزِيدُ الْكَمِّيَّةُ.
وَهَذَا هُوَ الْمُتَدَاوَلُ فِي غَالِبِ الْأَزْمَانِ لَا بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَرُبَّمَا لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ أَصْلًا أَوْ إلَّا قَلِيلًا.
وَأَمَّا أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ أَحَدٌ وَنَصُّوا أَنَّهُ بِمَرَّةٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الظُّهُورِ لِلْقَاضِي، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَرُدُّ بِهِ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ فَكَأَنَّهُ بِمَرَّةٍ يَظْهَرُ لِأَنَّهُ يُحَاسَبُ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ اسْتَنْقَصَ مِنْ الْمَالِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِسْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَانِعٌ شَرْعًا، غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِي لَا يُرَتِّبُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَالْكُلُّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلِذَا نَقول: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ رَدَّ شَهَادَتَهُ سَوَاءٌ قَامَرَ بِهِ أَوْ لَمْ يُقَامِرْ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَلَعِبُ الطَّابِ فِي بِلَادِنَا مِثْلَهُ لِأَنَّهُ يَرْمِي وَيَطْرَحُ بِلَا حِسَابٍ وَإِعْمَالِ فِكْرٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثَهُ الشَّيْطَانُ وَعَمِلَهُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ قُومِرَ بِهِ أَوْ لَا.
فَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهِ، فَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ النَّرْدَشِيرَ هُوَ الشِّطْرَنْجُ، وَلِمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «كُلُّ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا ثَلَاثَةً: تَأْدِيبَهُ لِفَرَسِهِ، وَمُنَاضَلَتَهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَمُلَاعَبَتَهُ مِنْ أَهْلِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ إلَّا ثَلَاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ: يُبَاحُ مَعَ الْكَرَاهَةِ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْحَلِفِ كَاذِبًا وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَالْمُقَامَرَةِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مُتَجَرِّدًا مَسَاغٌ لَمْ تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَنْ يَلْعَبُهُ عَلَى الطَّرِيقِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فَلِإِتْيَانِهِ الْأُمُورَ الْمُحَقَّرَةَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الشَّعْبَذَةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي دِيَارِنَا دِكَاكًا لِأَنَّهُ إمَّا سَاحِرٌ أَوْ كَذَّابٌ: أَعْنِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهَا وَيَتَّخِذُهَا مُكْسِبَةً، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا، وَصَاحِبُ السِّيمَيَا عَلَى هَذَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ كَالْبَوْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ) لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُتَّهَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُسْتَقْبَحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا الْمُسْتَخِفَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ.
وَالْمُسْتَخَفَّةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا: أَيْ الَّتِي يَسْتَخِفُّ النَّاسُ فِعْلَهَا، أَوْ الْخَصْلَةُ الَّتِي تَسْتَخِفُّ الْفَاعِلَ فَيَبْدُو مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} وَذَلِكَ (كَالْأَكْلِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ) يَعْنِي بِمَرْأَى النَّاسِ، وَالْبَوْلِ عَلَيْهَا، وَمِثْلُهُ الَّذِي يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ لِيَسْتَنْجِيَ مِنْ جَانِبِ بِرْكَةٍ وَالنَّاسُ حُضُورٌ، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي دِيَارِنَا مِنْ الْعَامَّةِ وَبَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الطَّلَبَةِ، وَالْمَشْيِ بِسَرَاوِيلَ فَقَطْ، وَمَدِّ رِجْلِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَشْفِ رَأْسِهِ فِي مَوْضِعٍ يُعَدُّ فِعْلُهُ خِفَّةً وَسُوءَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ وَحَيَاءٍ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» وَعَنْ الْكَرْخِيِّ: لَوْ أَنَّ شَيْخًا صَارَعَ الْأَحْدَاثَ فِي الْجَامِعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ سَخَفٌ.
وَأَمَّا أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ الدَّنِيئَةِ كَالْكَسَّاحِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِ دِيَارِ مِصْرَ قَنَوَاتِيًّا، وَالزَّبَّالِ وَالْحَائِكِ وَالْحَجَّامِ فَقِيلَ لَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَوُجِّهَ بِكَثْرَةِ خَلْفِهِمْ الْوَعْدَ وَكَذِبِهِمْ، وَرَأَيْت أَكْثَرَ مُخْلِفٍ لِلْوَعْدِ السَّمْكَرِيُّ.
وَالْأَصَحُّ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا قَدْ تَوَلَّاهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ، فَمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقَادِحُ لَا يُبْنَى عَلَى ظَاهِرِ الصِّنَاعَةِ، وَمِثْلُهُ النَّخَّاسُونَ وَالدَّلَّالُونَ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ خَلْفِهِمْ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا مَنْ عُلِمَ عَدَالَتُهُ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَائِعِ الْأَكْفَانِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا إذَا تَرَصَّدَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَبِيعُ الثِّيَابَ وَيُشْتَرَى مِنْهُ الْأَكْفَانُ فَتُقْبَلُ لِعَدَمِ تَمَنِّيهِ الْمَوْتَ لِلنَّاسِ وَالطَّاعُونِ.
وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّكَّاكِينَ لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ أَوْ بَاعَ أَوْ أَجَّرَ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَكُونُ كَذِبًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْكَذِبِ بَيْنَ الْقول وَالْكِتَابَةِ.
وَالصَّحِيحُ تُقْبَلُ إذَا كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ الصَّلَاحَ، فَإِنَّهُمْ غَالِبًا إنَّمَا يَكْتُبُونَ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ وَقَبْلَ صُدُورِهِ يَكْتُبُونَ عَلَى الْمَجَازِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ لِيَسْتَغْنُوا عَنْ الْكِتَابَةِ إذَا صَدَرَ الْمَعْنَى بَعْدَهَا.
وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَهَادَةَ الْقَرَوِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ تَقْبَلُ إلَّا بِمَانِعٍ غَيْرِهِ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالرَّقَّاصِ وَالْمُجَازِفِ فِي كَلَامِهِ وَالْمَسْخَرَةِ بِلَا خِلَافٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ وَيَكْذِبُ كَيْ يَضْحَكَ مِنْهُ النَّاسُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» وَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: مَنْ يَشْتُمُ أَهْلَهُ وَمَمَالِيكَهُ كَثِيرًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا تُقْبَلُ، وَكَذَا الشَّتَّامُ لِلْحَيَوَانِ كَدَابَّتِهِ، وَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَكَثِيرًا يَشْتُمُونَ بَائِعَ الدَّابَّةِ فَيَقولونَ قَطَعَ اللَّهُ يَدَ مَنْ بَاعَكِ، وَلَا مَنْ يَحْلِفُ فِي كَلَامِهِ كَثِيرًا وَنَحْوِهِ.
وَحُكِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ شَهِدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ فَشَكَاهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: إنَّ وَزِيرِي رَجُلُ دِينٍ لَا يَشْهَدُ بِالزُّورِ فَلِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتَهُ يَوْمًا قَالَ لِلْخَلِيفَةِ: أَنَا عَبْدُك، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَكَذَلِكَ، فَعَذَرَهُ الْخَلِيفَةُ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ رَدَّ أَبِي يُوسُفَ شَهَادَتَهُ لَيْسَ لِكَذِبِهِ، لِأَنَّ قول الْحُرِّ لِغَيْرِهِ أَنَا عَبْدُك مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقِيَامِ بِخِدْمَتِكَ، وَكَوْنِي تَحْتَ أَمْرِكَ مُمْتَثِلًا لَهُ عَلَى إهَانَةِ نَفْسِي فِي ذَلِكَ وَالتَّكَلُّمُ بِالْمَجَازِ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَامِعِ وَوَجْهِ الشَّبَهِ لَيْسَ كَذِبًا مَحْظُورًا شَرْعًا وَلِذَا وَقَعَ الْمَجَازُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ رَدَّهُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خُصُوصُ هَذَا الْمَجَازِ مِنْ إذْلَالِ نَفْسِهِ وَتَمَلُّقِهِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا يَعِزُّ هَذَا الْكَلَامُ إذَا قِيلَ لِلْخَلِيفَةِ فَعَدَلَ إلَى الِاعْتِذَارِ بِأَمْرٍ يَقْرُبُ مِنْ خَاطِرِهِ.
وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْمُرُوءَةِ مُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ.
وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْمُرُوءَةِ أَنْ لَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِمَا يَعْتَذِرُ مِنْهُ مِمَّا يَبْخَسُهُ عَنْ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَضْلِ.
وَقِيلَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَحِفْظُ اللِّسَانِ وَتَجَنُّبُ السُّخْفِ وَالْمُجُونِ وَالِارْتِفَاعُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ.
وَالسُّخْفُ: رِقَّةُ الْعَقْلِ مِنْ قولهِمْ ثَوْبٌ سَخِيفٌ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْغَزْلِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَفْرَطَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ.

متن الهداية:
(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) لِظُهُورِ فِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَذَا الْعُلَمَاءُ.
وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ سَبَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، فَإِذَا أَظْهَرَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا، وَقَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يُظْهِرْ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَشْتُمُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّتِيمَةِ مُجُونَةٌ وَسَفَهٌ وَلَا يَأْتِي بِهِ إلَّا الْأَوْضَاعُ وَالْأَسْقَاطُ، وَشَهَادَةُ السَّخِيفِ لَا تُقْبَلُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُتَبَرِّئُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ دِينًا مَرَضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ.

متن الهداية:
(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهُ الْفِسْقِ.
وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ إلَّا تَدَيُّنُهُ بِهِ وَصَارَ كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ أَوْ يَأْكُلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُسْتَبِيحًا لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي.
أَمَّا الْخَطَّابِيَّةُ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ.
وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) كُلُّهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ.
وَسَائِرُهُمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى مِثْلِهِمْ وَعَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ لَا لِخُصُوصِ بِدْعَتِهِمْ وَهَوَاهُمْ بَلْ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ، لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِمَنْ حَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ مُحِقٌّ أَوْ يَرَوْنَ وُجُوبَ الشَّهَادَةِ لِمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَمَنَعَ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ لِشِيعَتِهِمْ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِ شِيعَتِهِمْ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ هُوَ قول مَالِكٍ وَأَبِي حَامِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا قول الشَّافِعِيِّ فَكَقولنَا بِلَا اخْتِلَافٍ.
وَجْهُ قول مَالِكٍ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الِاعْتِقَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُسُوقِ فَوَجَبَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بِالْآيَةِ.
وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْهَوَى مُسْلِمٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْكَذِبِ لِتَدَيُّنِهِ بِتَحْرِيمِهِ حَتَّى أَنَّهُ رُبَّمَا يَكْفُرُ بِهِ كَالْخَوَارِجِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ بِهِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ مَعَ الْإِسْلَامِ.
فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْفِسْقَ الْفِعْلِيَّ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْخَوَارِجِ إذَا اعْتَقَدُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا، فَإِذَا قَاتَلُوا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِإِظْهَارِ الْفِسْقِ بِالْفِعْلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ اتِّفَاقُنَا عَلَى قَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ لِلْحَدِيثِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَعَ اعْتِمَادِهِ الْغُلُوَّ فِي الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ أَيْضًا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْفِسْقِ بِظَاهِرِهَا وَبِالْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ رَدَّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِيهِمْ.
وَالْخَطَّابِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْأَجْدَعُ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ الْأَسَدِيُّ الْأَجْدَعُ.
وَخَرَجَ أَبُو الْخَطَّابِ بِالْكُوفَةِ وَحَارَبَ عِيسَى بْنَ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَظْهَرَ الدَّعْوَةَ إلَى جَعْفَرَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ جَعْفَرُ وَدَعَا عَلَيْهِ فَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ عِيسَى بِالْكَنَائِسِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ.
(وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ}) فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ، وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ مُحَرَّمَ دِينِهِ، وَالْكَذِبُ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَقول عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَغِيظُهُ قَهْرُهُ إيَّاهُ، وَمِلَلُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقول.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) قَيَّدَ بِهَا لِتَخْرُجَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقولهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قول ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ كَشَهَادَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَعَكْسِهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ أَصْلًا لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ}، وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْهِدَايَةِ: وَالْكَافِرُونَ هُمْ الْفَاسِقُونَ.
وَفِي النِّهَايَةِ النُّسْخَةُ الْمُصَحَّحَةُ بِتَصْحِيحٍ بِخَطِّ شَيْخِي قَالَ تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ: هُمْ الْفَاسِقُونَ إذْ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ: {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} (فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ) بِذَلِكَ الْجَامِعِ، وَلِقولهِ تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَالْكَافِرُ لَيْسَ ذَا عَدْلٍ وَلَا مَرَضِيًّا وَلَا مِنَّا، وَلِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ لَأَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْمُسْلِمِ شَيْءٌ بِقولهِمْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ») قَالَ الْإِمَامُ: الْمَخْرَجُ غَرِيبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُدَّعَى، وَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَلَوْ قَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ عِوَضَ النَّصَارَى وَافَقَ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» وَمُجَالِدٌ فِيهِ مَقَالٌ.
ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا عَلَاءُ الدِّينِ: وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ الْيَهُودِ عِوَضَ النَّصَارَى، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا الْإِسْنَادِ «جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِأَعْلَمَ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ، فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَا: نَجِدُ فِيهَا إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا» قَالَ: هَكَذَا وَجَدْتَهُ فِي نُسْخَةِ عَلَاءِ الدِّينِ يَدُهُ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فَدَعَا بِالشُّهُودِ بِخَطٍّ كَشَفْتَهُ مِنْ نَحْوِ عِشْرِينَ نُسْخَةً، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَالدَّارَقُطْنِيّ كُلُّهُمْ قَالُوا: فَدَعَا بِالشُّهُودِ.
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: قولهُ فِي الْحَدِيثِ «فَدَعَا بِالشُّهُودِ فَشَهِدُوا» زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ تَفَرَّدَ بِهَا مُجَالِدٌ وَلَا يُحْتَجَّ بِمَا تَفَرَّدَهُ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
لَكِنَّ الطَّحَاوِيَّ أَسْنَدَهُ إلَى عَامِرِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ» ثُمَّ قول الْقَائِلِ لَا يُقْبَلُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ مُجَالِدٌ يَجْرِي فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّاوِيَ الْمُضَعَّفَ إذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ حُكِمَ بِهِ لِارْتِفَاعِ وَهْمِ الْغَلَطِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَجْمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ بِنَاءً عَلَى مَا سَأَلَ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ فِيهِمَا.
وَأُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ حُكْمَهَا الرَّجْمُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ إذْ هُوَ يُوَافِقُ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ بَنَى عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ يَهُودٍ فِي مَحَالِّهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُجَالِدًا لَمْ يَغْلَطْ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
وَأَنْتَ عَلِمْتَ فِي مَسْأَلَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِسْقُ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ بِالْكَذِبِ لَا الِاعْتِقَادُ، إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُسِخَتْ قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فَبَقِيَتْ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى جِنْسِهِ بِدَلِيلِ وِلَايَتِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَمَمَالِيكِهِ فَجَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى جِنْسِهِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ أَصْلًا فَلَا شَهَادَةَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَقول عَلَى الْمُسْلِمِ لِغَيْظِهِ بِقَهْرِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِيهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ عَادَاهُ لَيْسَ أَحَدُهُمْ تَحْتَ قَهْرِ الْآخَرِ فَلَا حَامِلَ عَلَى التَّقول عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إذْ مُجَرَّدُ الْعَدَاوَةِ مَانِعٌ مِنْ الْقَبُولِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ يُعَادِي مُسْلِمًا ثُمَّ يُشَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ مُضَعَّفٌ بِعُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إلَّا مِلَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا تَجُوزُ عَلَى مِلَّةِ غَيْرِهِمْ» وَأَيْضًا فَقول الرَّاوِيِّ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ وَاقِعَةِ حَالٍ شَهِدَ فِيهَا بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى بَعْضٍ فَلَا عُمُومَ لَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حِكَايَةُ تَشْرِيعٍ قوليٍّ فَيَعُمُّ شَهَادَةَ الْمِلَّتَيْنِ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ فَلَا نَحْكُمُ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، غَيْرَ أَنَّ فِي هَذِهِ خِلَافًا فِي الْأُصُولِ، وَرُجِّحَ الثَّانِي وَهُوَ مَسْأَلَةُ قول الرَّاوِي «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ».

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ) أَرَادَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُسْتَأْمَنُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى الذِّمِّيِّ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ لَا تُقْبَلُ) لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ وَلِهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ) أَرَادَ بِهِ الْمُسْتَأْمَنَ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ دَخَلَ بِلَا أَمَانٍ قَهْرًا اُسْتُرِقَّ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى أَحَدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ أَعْلَى مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ قِيلَ خَلْفَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُ، وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا لَا بِالْمُسْتَأْمَنِ، وَقولهُ بِخِلَافِ الَّذِي مُتَّصِلٌ بِقولهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ: يَعْنِي تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ كَالْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْمُسْلِمِ تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا الذِّمِّيُّ، وَإِنَّمَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَةُ مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي الْإِرْثِ وَالْمَالِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَقِّي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ لَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِهِ الْكُلَّ سَدَّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبَ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ، وَفِيهِ قُصُورٌ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَمْرِ الْمُرُوءَةِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَاصِي.
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هُوَ قولهُ أَنْ لَا يَأْتِي بِكَبِيرَةٍ وَلَا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ وَيَكُونُ سَتْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ هَتْكِهِ وَصَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ وَمُرُوءَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَيَسْتَعْمِلُ الصِّدْقَ وَيَجْتَنِبُ الْكَذِبَ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً.
هَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ حِينَ سَأَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ وَزِيرُ الْمُعْتَضِدِ عَنْ الْعَدَالَةِ فَقَالَ: أَحْسَنُ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ الْقَاضِي.
ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَكْفِيهِ إلَى قولهِ وَمُرُوءَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَقول الْمُصَنِّفِ (فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ) يُرِيدُ الصَّغِيرَةَ، وَلَفْظُ الْإِلْمَامِ وَأَلَمَّ قَدْ اشْتَهَرَ فِي الصَّغِيرَةِ.
وَمِنْهُ قول ابْنِ خِرَاشٍ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ** وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا

هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْعُتْبِيُّ عَنْهُ بِسَنَدِهِ، وَنَسَبَهُ الْخَطَّابِيُّ إلَى أُمَيَّةَ، وَنِسْبَةُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ إيَّاهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَطٌ.
وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ أَفْرَادٍ نَصَّ عَلَيْهَا: مِنْهَا تَرْكُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ كَوْنِ الْإِمَامِ لَا طَعْنَ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا حَالٍ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا فِي تَرْكِهَا كَأَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْإِمَامُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِالتَّرْكِ، وَكَذَا بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْحَلْوَانِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَالسَّرَخْسِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.
وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: مَنْ أَكَلَ فَوْقَ الشِّبَعِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ فِي غَيْرِ إرَادَةِ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ أَوْ مُؤَانَسَةِ الضَّيْفِ، وَكَذَا مَنْ خَرَجَ لِرُؤْيَةِ السُّلْطَانِ أَوْ الْأَمِيرِ عِنْدَ قُدُومِهِ.
وَرَدَّ شَدَّادُ شَهَادَةَ شَيْخٍ صَالِحٍ لِمُحَاسَبَتِهِ ابْنَهُ فِي نَفَقَةِ طَرِيقِ مَكَّةَ كَأَنَّهُ رَأَى مِنْهُ تَضْيِيقًا وَمُشَاحَحَةً فَشَهِدَ مِنْهُ الْبُخْلَ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلتَّفَرُّجِ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ، وَكَذَا التِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ وَقُرَى فَارِسٍ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ مُخَاطِرٌ بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ لِنَيْلِ الْمَالِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْذِبَ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يَحُجَّ إذَا كَانَ مُوسِرًا عَلَى قول مَنْ يَرَاهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَذَا مَنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارٍ بَاطِلٍ وَكَذَا عَلَى فِعْلٍ بَاطِلٍ، مِثْلُ مِنْ يَأْخُذُ سُوقَ النَّخَّاسِينَ مُقَاطَعَةً وَأَشْهَدَ عَلَى وَثِيقَتِهَا شُهُودًا.
قَالَ الْمَشَايِخُ: إنْ شَهِدُوا حَلَّ لَهُمْ اللَّعْنُ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِلٍ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عِنْدَ مُبَاشِرِي السُّلْطَانِ عَلَى ضَمَانِ الْجِهَاتِ وَالْإِجَارَاتِ الضَّارَّةِ وَعَلَى الْمَحْبُوسِينَ عِنْدَهُمْ وَاَلَّذِينَ فِي تَرْسِيمِهِمْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ) لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَذَا الصَّنِيعِ عَدْلًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ).
نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ.
قَالَ: وَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَإِمَامَتُهُ إلَّا إذَا تَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ عَنْ السُّنَّةِ لَا خَوْفًا مِنْ الْهَلَاكِ، وَكُلُّ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا يُبْطِلُ بِهِ شَهَادَتَهُ وَعِنْدَنَا هُوَ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «الْخِتَانُ لِلرِّجَالِ سُنَّةٌ، وَلِلنِّسَاءِ مَكْرُمَةٌ» وَمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ صَلَاتُهُ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ» إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَجُوسِيَّ؛ أَلَا تَرَى إلَى قولهِ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ.

متن الهداية:
(وَالْخَصِيِّ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَلِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْخَصِيُّ إذَا كَانَ عَدْلًا) لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِ مَظْلُومٌ.
نَعَمْ لَوْ كَانَ ارْتِضَاءً لِنَفْسِهِ وَفَعَلَهُ مُخْتَارًا مُنِعَ.
وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ أَنَّ الْجَارُودَ شَهِدَ عَلَى قُدَامَةَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ مَعَكَ شَاهِدٌ آخَرُ؟ قَالَ لَا، قَالَ عُمَرُ: يَا جَارُودُ مَا أَرَاك إلَّا مَجْلُودًا، قَالَ: يَشْرَبُ خَتْنُكَ الْخَمْرَ وَأُجْلَدُ أَنَا، فَقَالَ عَلْقَمَةُ الْخَصِيُّ لِعُمَرَ: أَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْخَصِيِّ؟ قَالَ: وَمَا بَالُ الْخَصِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؟ قَالَ: فَإِنَى أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْته يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَالَ عُمَرُ: مَا قَاءَهَا حَتَّى شَرِبَهَا، فَأَقَامَهُ ثُمَّ جَلَدَهُ.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُطَوَّلًا.

متن الهداية:
(وَوَلَدِ الزِّنَا) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَ الْوَلَدِ كَكُفْرِهِمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمِثْلِهِ فَيُتَّهَمُ.
قُلْنَا: الْعَدْلُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِبُّهُ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَوَلَدِ الزِّنَا) أَيْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ، إذْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى جَائِزَةٌ) لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ.
الشَّرْحُ:
(وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ جَائِزَةٌ) إذَا شَهِدَ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَلَوْ شَهِدَ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تُقْبَلُ، إلَّا إذَا زَالَ الْإِشْكَالُ بِظُهُورِ مَا يَحْكُمُ بِهِ بِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ.

متن الهداية:
(وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ.
وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَاسِقِ، لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يَقْدُمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِفِسْقٍ لِأَنَّهُ مُعِينٌ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ وَجِبَايَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ كَانَ فِسْقًا لَمْ يَلِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِعُمَرَ وَكَثِيرٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ، وَلَوْ كَانَ فِسْقًا لَمْ يَلِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ خَلْفَاءُ وَالْعُمَّالُ فِي الْعُرْفِ مَنْ يُوَلِّيهِمْ الْخَلِيفَةُ عَمَلًا يَكُونُ نَائِبَهُ فِيهِ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَتُقْبَلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ وَيَنْقَشِعْ عَنْهُ الظُّلْمُ كَالْحَجَّاجِ.
وَقِيلَ أَرَادَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَاسِقِ الْوَجِيهِ وَعَلِمْتَ مَا فِيهِ وَرَدَّهُ شَهَادَةَ الْوَزِيرِ لِقولهِ لِلْخَلِيفَةِ أَنَا عَبْدُك يُبْعِدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
وَقِيلَ أَرَادَ بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ وَيُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَمَلِ، لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ الْخَسِيسَةِ فَأَفْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِمْ، وَكَيْفَ لَا وَكَسْبُهُمْ أَطْيَبُ كَسْبٍ، وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّ شَهَادَةَ الرَّئِيسِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا الْجَابِي وَالصَّرَّافُ الَّذِي يَجْمَعُ عِنْدَهُ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذُهَا طَوْعًا لَا تُقْبَلُ.
وَقَدَّمْنَا عَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّ الْقَائِمَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْجِبَايَاتِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَأْجُورٌ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ ظُلْمًا، فَعَلَى هَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّئِيسِ رَئِيسُ الْقَرْيَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي بِلَادِنَا شَيْخَ الْبَلَدِ.
وَمِثْلُهُ الْمُعَرِّفُونَ فِي الْمَرَاكِبِ وَالْعُرَفَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَضُمَّانُ الْجِهَاتِ فِي بِلَادِنَا لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَعْوَانٌ عَلَى الظُّلْمِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ وَالْوَصِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَصِيُّ لَمْ يَجُزْ) وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ إنْ ادَّعَى، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا الرَّجُلِ مَعَهُمَا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلشَّاهِدِ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ، فَيَكْفِي الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ لَا أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ وَالْوَصِيَّانِ إذَا أَقَرَّا أَنَّ مَعَهُمَا ثَالِثًا يَمْلِكُ الْقَاضِي نَصْبَ ثَالِثٍ مَعَهُمَا لِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِرَافِهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَا وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَصِيِّ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَفِي الْغَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ بِاعْتِرَافِهِمَا فِي حَقِّهِمَا (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا) لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ) صُورَتُهَا: رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّهُ وَصِيُّ فُلَانٍ الْمَيِّتِ فَشَهِدَ بِذَلِكَ اثْنَانِ مُوصَى لَهُمَا بِمَالٍ أَوْ وَارِثَانِ لِذَلِكَ الْمَيِّتِ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّانِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ، لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ تَتَضَمَّنُ جَلْبَ نَفْعٍ لِلشَّاهِدِ.
أَمَّا الْوَارِثَانِ لِقَصْدِهِمَا نَصْبَ مَنْ يَتَصَرَّفُ لَهُمَا وَيُرِيحُهُمَا وَيَقُومُ بِإِحْيَاءِ حُقُوقِهِمَا وَالْغَرِيمَانِ الدَّائِنَانِ وَالْمُوصَى لَهُمَا لِوُجُودِ مَنْ يَسْتَوْفِيَانِ مِنْهُ وَالْمَدْيُونَانِ لِوُجُودِ مَنْ يَبْرَءَانِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَالْوَصِيَّانِ لِوُجُودِ مَنْ يُعِينُهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالْمُطَالَبَةِ وَكُلُّ شَهَادَةٍ جَرَّتْ نَفْعًا لَا تُقْبَلُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَمْ نُوجِبْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَاضِي شَيْئًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بَلْ إنَّمَا اعْتَبَرْنَاهَا عَلَى وِزَانِ الْقُرْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ.
وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِفَائِدَةٍ غَيْرِ الْإِثْبَاتِ كَمَا جَازَ اسْتِعْمَالُهَا لِتَطْيِيبِ الْقَلْبِ فِي السَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ وَلِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي فِي تَعْيِينِ الْأَنْصِبَاءِ، فَكَذَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَاهَا لِفَائِدَةِ إسْقَاطِ تَعْيِينِ الْوَصِيِّ عَنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ لِلْقَاضِي إذَا ثَبَتَ الْمَوْتُ وَلَا وَصِيَّ أَنْ يُنَصِّبَ الْوَصِيَّ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ وَصَّى وَادَّعَى الْعَجْزَ وَهَذِهِ الصُّوَرُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا وَثَبَتَ الْمَوْتُ فَلِلْقَاضِي أَوْ عَلَيْهِ أَنْ يُنَصِّبَ وَصِيًّا، فَلَمَّا شَهِدَ هَؤُلَاءِ بِوِصَايَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَقَدْ رَضَوْهُ وَاعْتَرَفُوا لَهُ بِالْأَهْلِيَّةِ الصَّالِحَةِ لِذَلِكَ، فَكَفَى الْقَاضِي بِذَلِكَ مُؤْنَةَ التَّفْتِيشِ عَلَى الصَّالِحِ، وَعُيِّنَ هَذَا الرَّجُلُ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ لَا بِوِلَايَةٍ أَوْجَبَتْهَا الشَّهَادَةُ الْمَذْكُورَةُ وَكَذَلِكَ وَصِيَّا الْمَيِّتِ لَمَّا شَهِدَا بِالثَّالِثِ فَقَدْ اعْتَرَفَا بِعَجْزٍ شَرْعِيٍّ مِنْهُمَا عَنْ التَّصَرُّفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعَهَا، أَوْ بِعَجْزٍ عَلِمَهُ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا حَتَّى أَدْخَلَهُ مَعَهُمَا فِي فَيَنْصِبُ الْقَاضِي الْآخَرَ، وَفِي الصُّوَرِ كُلِّهَا ثُبُوتُ الْمَوْتِ شَرْطٌ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ وَصِيٍّ قَبْلَ الْمَوْتِ إلَّا فِي شَهَادَةِ الْغَرِيمَيْنِ الْمَدْيُونَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إثْبَاتِ الْوَصِيِّ الَّذِي شَهِدَا لَهُ ثُبُوتُ الْمَوْتِ لِأَنَّهُمَا مُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِثُبُوتِ حَقِّ قَبْضِ الدَّيْنِ لِهَذَا الرَّجُلِ فَضَرَرُهُمَا فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهَا بِالْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ وَهُوَ يَدَّعِي الْوَكَالَةَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ أَثْبَتَ الْقَاضِي وَكَالَتَهُ لَكَانَ مُثْبِتًا لَهَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ وَإِذَا تَحَقَّقْتَ مَا ذُكِرَ ظَهَرَ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ثَابِتٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا إذْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا شَيْءٌ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمَا نَصْبُ الْقَاضِي وَصِيًّا اخْتَارُوهُ، وَلَيْسَ هُنَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا يُصْرَفُ إلَيْهِ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ، وَلَوْ اُعْتُبِرَا فِي نَفْسِ إيصَاءِ الْقَاضِي إلَيْهِ فَالْقِيَاسُ لَا يَأْبَاهُ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْمَشَايِخِ فِيهَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
وَالْمَنْقول عَنْ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَيْسَ إلَّا مُحَمَّدُ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا لِرَجُلٍ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَيْهِ قَالَ: جَائِزٌ إنْ ادَّعَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ كَانَ بَاطِلًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْبِ وَكِيلٍ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ نَصَبَهُ كَانَ عَنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ.
فُرُوعٌ:
إذَا شَهِدَ الْمُودَعَانِ بِكَوْنِ الْوَدِيعَةِ مِلْكًا لِمُودِعِهِمَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ مُدَّعِيهَا أَنَّهَا مِلْكُ الْمُودَعِ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَا رَدَّا الْوَدِيعَةَ عَلَى الْمُودِعِ وَلَوْ شَهِدَ الْمُرْتَهِنَانِ بِالرَّهْنِ لِمُدَّعِيهِ قُبِلَتْ، وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ لَا تُقْبَلُ وَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ لِلْمُدَّعِي لِإِقْرَارِهِمَا بِالْغَصْبِ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِكَوْنِ الرَّهْنِ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ هَالِكًا إلَّا إذَا شَهِدَ بَعْدَ رَدِّ الرَّهْنِ، وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنَانِ فَشَهِدَ الرَّاهِنَانِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ وَضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمُدَّعِي لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ شَهِدَ الْغَاصِبَانِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَ بَعْدَ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِمَا ثُمَّ شَهِدَا لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ وَلَوْ شَهِدَ الْمُسْتَقْرِضَانِ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ لَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَلَا بَعْدَهُ، وَلَوْ رَدَّ عَيْنَهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ بَعْدَ رَدِّ الْعَيْنِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ قَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ عِنْدَهُ حَتَّى كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ إذَا شَهِدَ الْمُشْتَرِيَانِ شِرَاءً فَاسِدًا بِأَنَّ الْمُشْتَرَى مِلْكٌ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تُقْبَلُ وَكَذَا لَوْ نَقَضَ الْقَاضِي الْعَقْدَ أَوْ تَرَاضَوْا عَلَى نَقْضِهِ هَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِمَا، فَلَوْ رَادَّهُ عَلَى الْبَائِعِ ثُمَّ شَهِدَا قُبِلَتْ.
وَلَوْ شَهِدَ الْمُشْتَرِي بِمَا اشْتَرَى لِإِنْسَانٍ وَلَوْ بَعْدَ التَّقَايُلِ أَوْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِلَا قَضَاءٍ لَا تُقْبَلُ، كَالْبَائِعِ إذَا شَهِدَ بِكَوْنِ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي بَعْدَ الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ الرَّدُّ بِطَرِيقٍ هُوَ فَسْخٌ قُبِلَتْ.
وَشَهَادَةُ الْغَرِيمَيْنِ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِمَا لِهَذَا الْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ وَإِنْ قَضَيَا الدَّيْنَ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْجِرِ بِكَوْنِ الدَّارِ لِلْمُدَّعِي إنْ قَالَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ بِأَمْرِي لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ قَالَ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِي تُقْبَلُ، وَشَهَادَةُ سَاكِنِ الدَّارِ بِغَيْرِ إجَارَةٍ لِلْمُدَّعِي أَوْ عَلَيْهِ تُقْبَلُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِيمَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِ غَصْبِ الْعَقَارِ وَعَدَمِهِ.
وَلَوْ شَهِدَ عَبْدَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّ الثَّمَنَ كَذَا لَا تُقْبَلُ.
وَفِي الْعُيُونِ: أَعْتَقَهُمَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ثُمَّ شَهِدَا عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ جُحُودِهِ تَجُوزُ إجْمَاعًا، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي أَلْفٍ قِبَلَ فُلَانٍ فَخَاصَمَ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي ثُمَّ عَزْلَهُ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَشَهِدَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ لِمُوَكِّلِهِ جَازَتْ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ قَامَ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ كَانَ خَاصَمَ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْبَاقِي بِحَالِهِ لَمْ تَجُزْ، وَلَوْ خَاصَمَ فِي الْأَلْفِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْوَكَالَةُ بِكُلِّ حَقٍّ قِبَلَ فُلَانٍ فَعَزَلَهُ فَشَهِدَ لِمُوَكِّلِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُ فَاحْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْإِشْهَادِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمَّا اتَّصَلَ بِهَا الْقَضَاءُ صَارَ الْوَكِيلُ خَصْمًا فِي جَمِيعِ مَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَشَهَادَتُهُ شَهَادَةُ الْخَصْمِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَاضِي عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ وَعِلْمُهُ لَيْسَ قَضَاءً فَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فَتُقْبَلُ فِي غَيْرِ مَا صَارَ فِيهِ خَصْمًا، هَذَا كُلُّهُ فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَالطَّلَبِ لِمَ عَلَى رَجُلٍ مُعَيَّنٍ.
وَحُكْمُهَا أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ، أَمَّا الْعَامَّةُ وَهِيَ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَبِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ قِبَلَ جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ أَهْلِ مِصْرٍ فَيَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ وَفِيهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُوَكِّلِهِ بِشَيْءٍ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْعَزْلِ إلَّا عَلَى مَا وَجَبَ بَعْدَ الْعَزْلِ.
شَهِدَ ابْنَا الْمُوَكِّلِ أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَ هَذَا بِقَبْضِ دُيُونِهِ لَا تُقْبَلُ إذَا جَحَدَ الْمَطْلُوبُ الْوَكَالَةَ وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَشَهَادَةُ ابْنَيْ الْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا شَهَادَةُ أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَأَحْفَادِهِ.
وَشَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ الْقَاضِي عَنْ الْوِصَايَةِ لَا تُقْبَلُ وَلَوْ بَعْدَمَا أَدْرَكَتْ الْوَرَثَةُ سَوَاءٌ خَاصَمَ فِيهِ أَوْ لَا، وَلَوْ شَهِدَ لِكَبِيرٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ تُقْبَلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ لِكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مَعًا فِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ لَا تُقْبَلُ.
وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ دَارٌ أَوْ غَيْرِهَا لِوَارِثٍ بَالِغٍ تُقْبَلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ) لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ لَهُ الدَّفْعَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ، وَلِأَنَّهُ هَتْكُ السِّرِّ وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ وَالْإِشَاعَةُ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ (إلَّا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ تُقْبَلُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ) قِيلَ قولهُ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ تَكْرَارٌ.
أُجِيبَ بِجَوَازِ أَنْ لَا يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ عَدَمُ الْحُكْمِ عَلَى نَفْيِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ الْجَرْحُ الْمُجَرَّدُ عَنْ حَقِّ الشَّرْعِ أَوْ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا أَحَدَهُمَا سُمِعَتْ الشَّهَادَةُ وَحُكِمَ بِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الشُّهُودَ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ أَكَلَةُ الرِّبَا أَوْ شَرَبَةُ الْخَمْرِ، أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزُّورِ أَوْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ، أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ أُجَرَاءُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، أَوْ إقْرَارُهُمْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، أَوْ إقْرَارُهُمْ أَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ.
فَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ تُقْبَلُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَالْفِسْقُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إلْزَامٌ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْقَاضِي إلْزَامُ الْفِسْقِ لِأَحَدٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ رَفْعِهِ فِي الْحَالِ بِالتَّوْبَةِ.
الثَّانِي أَنَّ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَفْسُقُ الشَّاهِدُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِيهِ إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ، قَالَ تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ بَلْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ دَفْعَهُ لَيْسَ يَنْحَصِرُ فِي إفَادَةِ الْقَاضِي عَلَى وَجْهِ الْإِشَاعَةِ بِأَنْ يَشْهَدَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ، إذْ يَنْدَفِعُ بِأَنْ يُخْبِرَ الْقَاضِيَ سِرًّا فَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الصُّوَرُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ، وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ.
وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الْبَاطِلِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ.
الشَّرْحُ:
وَمِنْهَا مَا لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ: يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لِهَذَا الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِئْجَارُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْجَرْحِ.
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقولهِ وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ نَائِبًا عَنْ الْمُدَّعِي فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ هَذَا بَلْ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ.
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الْفِسْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلُوا مُزَكِّينَ لِشُهُودِ الْمُدَّعِي فَيُخْبِرُونَ بِالْوَاقِعِ مِنْ الْجَرْحِ فَيُعَارِضُ تَعْدِيلَهُمْ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قُدِّمَ الْجَرْحُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَدِّلَ فِي زَمَانِنَا يُخْبِرُ الْقَاضِيَ سِرًّا تَفَادِيًا مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَالتَّعَادِي، وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي، وَقول الشَّاهِدِ لَا شَهَادَةَ عِنْدِي لِشَكٍّ أَوْ ظَنٍّ عُرَاه بَعْدَمَا مَضَتْ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْجَرْحُ غَيْرَ مُجَرَّدٍ بَلْ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ حَقٍّ لِلْعَبْدِ أَوْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَهُمْ بِعَشَرَةٍ وَأَعْطَاهُمُوهَا مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ أَنِّي صَالَحْتُهُمْ عَلَى كَذَا وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا وَقَدْ شَهِدُوا وَأَنَا أُطَالِبُهُمْ بِهَذَا الْمَالِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِمْ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ صَالَحْتُهُمْ عَلَى كَذَا إلَى آخِرِهِ، لَكِنْ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِمْ الْمَالَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ سَرَقَ مِنِّي أَوْ زَنَى أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي فِيمَا ادَّعَى بِهِ مِنْ الْمَالِ أَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ هَذَا الْأَمْرُ قُبِلَتْ، أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ مِنْهُ مَا تَضَمَّنَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَمَوَاضِعُهُ ظَاهِرَةٌ وَفِي ضِمْنِهِ يَثْبُتُ الْجَرْحُ. وَمِنْهُ الشَّهَادَةُ بِرِقِّهِمْ فَإِنَّ الرِّقَّ حَقٌّ لِلْعَبْدِ. وَمِنْهُ مَا تَضَمَّنَ حَقًّا لِلشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ كَالشَّهَادَةِ بِسَرِقَتِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَزِنَاهُمْ أَوْ غَيْرِ حَدٍّ كَالشَّهَادَةِ بِأَنَّهُمْ مَحْدُودُونَ، فَإِنَّهَا قَامَتْ عَلَى إثْبَاتِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَضَاءُ الْقَاضِي حَقُّ الشَّرْعِ. وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبْطِلٌ لِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَتَضَمَّنْ إشَاعَةَ فَاحِشَةٍ فَتُقْبَلُ. وَمِنْهُ شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ الْمَشْهُودِ لَهُ إذْ لَيْسَ فِيهِ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ فَتُقْبَلُ فَتَصِيرُ الشَّرِكَةُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ فَمَهْمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْبَاطِلِ يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ شَرِيكَهُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ وَإِلَّا كَانَ إقْرَارًا بِأَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ لَهُمَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَشْهَدُونَ بِهِ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِمَا نَسَبَهُ إلَى شُهُودِهِ مِنْ فِسْقِهِمْ وَنَحْوِهِ لَيْسَ فِيهِ إشَاعَةٌ مِنْهُمْ، بَلْ إخْبَارٌ عَنْ إخْبَارِ الْمُدَّعِي عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَتُصْبِحُ كَمَا لَوْ سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْهُ اعْتِرَافٌ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَالْإِنْسَانُ مُؤَاخَذٌ بِزَعْمِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَكَذَا الْإِشَاعَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ مَحْدُودُونَ إنَّمَا هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ شَهَادَةِ الْقَذْفِ.
هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْخَصَّافُ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِهِ فَقِيلَ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ فَتُقْبَلُ كَالرِّقِّ وَأَنْتَ سَمِعْت الْفَرْقَ.
وَأَوَّلُ جَمَاعَةٌ قول الْخَصَّافِ بِحَمْلِهِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَشَاهِدٍ زَكَّاهُ نَفَرٌ وَجَرَّحَهُ نَفَرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا مَا يَمْنَعُهُ ثُمَّ قَدْ وَقَعَ فِي عَدِّ صُوَرِ عَدَمِ الْقَبُولِ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ شَرَبَةُ خَمْرٍ.
وَفِي صُوَرِ الْقَبُولِ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهُ شَرِبَ أَوْ زَنَى لِأَنَّهُ لَيْسَ جَرْحًا مُجَرَّدًا لِتَضَمُّنِهِ دَعْوَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ وَيَحْتَاجُ إلَى جَمْعٍ وَتَأْوِيلٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ) وَمَعْنَى قولهِ أُوهِمْتُ أَيْ أَخْطَأْت بِنِسْيَانِ مَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَتُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ عَدْلٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ أُوهِمْتُ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَلْبِيسٍ وَخِيَانَةٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ لَحِقَ الْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ.
وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعَ شُبْهَةٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ الْكَلَامِ أَصْلًا مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَإِنْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قولهُ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْت بَعْضَ شَهَادَتِي: أَيْ أَخْطَأْت لِنِسْيَانٍ) عَرَانِي بِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ بِأَنْ كَانَ شَهِدَ بِأَلْفٍ فَقَالَ إنَّمَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، أَوْ بِنَقْصٍ بِأَنْ شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَالَ أُوهِمْت إنَّمَا هِيَ أَلْفٌ (جَازَتْ شَهَادَتُهُ) إذَا كَانَ عَدْلًا: أَيْ ثَابِتَ الْعَدَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ لَا فَسَأَلَ عَنْهُ فَعُدِّلَ (وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِهِ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) إذْ طَبْعُ الْبَشَرِ النِّسْيَانُ وَعَدَالَتُهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ تُوجِبُ قَبُولَ قولهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَابَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ ذَلِكَ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ اسْتِغْوَاءِ الْمُدَّعِي فِي الزِّيَادَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ فِي الْمَالِ فَلَا تُقْبَلُ (وَعَلَى هَذَا إذَا غَلِطَ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ) بِأَنْ ذَكَرَ الشَّرْقِيَّ مَكَانَ الْغَرْبِيِّ وَنَحْوَهُ (أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ) بِأَنْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ إنْ تَدَارَكَهُ فِي الْمَجْلِسِ قُبِلَ، وَبَعْدَهُ لَا، وَإِذَا جَازَتْ وَلَمْ تُرَدَّ فَبِمَاذَا يَقْضِي؟ قِيلَ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِقولهِ أُوهِمْتُ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الزِّيَادَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُ بِأَلْفٍ وَقَالَ: بَلْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لَا يَدْفَعُ إلَّا إنْ ادَّعَى الْأَلْفَ وَخَمْسَمِائَةٍ.
وَصُورَةُ الزِّيَادَةِ حِينَئِذٍ عَلَى تَقْدِيرِ الدَّعْوَى أَنْ يَدَّعِيَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَشْهَدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَقول أُوهِمْتُ إنَّمَا هُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، لَكِنْ هَلْ يَقْضِي بِأَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؟ قِيلَ يَقْضِي بِالْكُلِّ، وَقِيلَ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ الْأَلْفُ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ غَلِطْت بِخَمْسِمِائَةٍ زِيَادَةً وَإِنَّمَا هُوَ خَمْسُمِائَةٍ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَطْ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُجْعَلُ كَحُدُوثِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ لَوْ شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَقْضِ بِأَلْفٍ فَكَذَا إذَا غَلِطَ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، فَعَلَى هَذَا قولهُ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ: أَيْ لَا تُرَدُّ، لَكِنْ لَا يَقْضِي، إلَّا كَمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كَانَ وَهْمُهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ زَادَ فِيهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَا أُوهِمْنَا وَهُمَا غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ قُبِلَ مِنْهُمَا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي بِالْكُلِّ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ شَهِدَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ يَوْمٍ وَقَالَ شَكَكْتُ فِي كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ بِالصَّلَاحِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِالصَّلَاحِ فَهَذِهِ تُهْمَةٌ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا شَهِدُوا بِأَنَّ الدَّارَ لِلْمُدَّعِي وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ قَالُوا لَا نَدْرِي لِمَنْ الْبِنَاءُ فَإِنِّي لَا أُضَمِّنُهُمْ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَحْدَهُ كَمَا لَوْ قَالُوا شَكَكْنَا فِي شَهَادَتِنَا، وَإِنْ قَالُوا لَيْسَ الْبِنَاءُ لِلْمُدَّعِي ضَمِنُوا قِيمَةَ الْبِنَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي قولهِمْ شَكَكْنَا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ فِي أَنَّهُ يُقْبَلُ إذَا كَانُوا عُدُولًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ وَهُوَ مَا إذَا تَرَكَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ الْمُدَّعِي أَوْ اسْمَ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ يَكُونُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ بِلَا شَرْطِهِ وَهُوَ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَلَوْ قَضَى لَا يَكُونُ قَضَاءً.
فُرُوعٌ:
مِنْ الْخُلَاصَةِ: وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَكْتَبٍ وَعَلَى مُعَلِّمِهِ فَغُصِبَ فَشَهِدَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُ وَقْفُ فُلَانٍ عَلَى مَكْتَبِ كَذَا وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ أَوْلَادٌ فِي الْمَكْتَبِ قُبِلَتْ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَجُوزُ أَيْضًا، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لِلْمَسْجِدِ بِشَيْءٍ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وَقْفِيَّةٍ وَقْفٍ عَلَى مَدْرَسَةِ كَذَا وَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا تُقْبَلُ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ وَقْفٌ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَكَذَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَقْفٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ.
وَقِيلَ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ حَقًّا مِنْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْفَضْلِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَامِدٍ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: تُقْبَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ كَوْنَ الْفَقِيهِ فِي الْمَدْرَسَةِ وَالرَّجُلِ فِي الْمَحَلَّةِ وَالصَّبِيِّ فِي الْمَكْتَبِ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ يَنْتَقِلُ، وَأُخِذَ هَذَا مِمَّا سَنَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ الْخَصَّافِ.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ جِيرَانِهِ وَلِلشُّهُودِ أَوْلَادٌ مُحْتَاجُونَ فِي جَوَازِ الْمُوصِي قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ لِلِابْنِ وَتَبْطُلُ لِلْبَاقِينَ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ كَذَلِكَ.
وَفِي وَقْفِ هِلَالٍ قَالَ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْجِيرَانِ عَلَى الْوَقْفِ.
قُلْتُ: وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَوْقَافِهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ قَالَ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ فُقَرَاءَ الْجِيرَانِ لَيْسُوا قَوْمًا مَخْصُوصِينَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ يَوْمَ تُقْسَمُ الْغَلَّةُ، فَمَنْ انْتَقَلَ مِنْهُمْ مِنْ جِوَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْغَلَّةِ حَقٌّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ فَقِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَ أَرْضَهُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ لَهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا خَاصَّةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلِيَّ الْوَقْفِ لَوْ أَعْطَى الْغَلَّةَ غَيْرَهُمَا مِنْ فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ كَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهَادَةٍ تَكُونُ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ مِثْلُ أَهْلِ بَغْدَادَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ.
وَذَكَرَ قَبْلَ هَذَا بِأَسْطُرٍ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى جِيرَانِهِ وَهُمَا جِيرَانُهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، وَكَأَنَّ الْفَرْقَ تَعَيُّنُهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذْ لَا جِيرَانَ لَهُ سِوَاهُمَا، بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ.
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ فُقَرَاءُ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِزِيَادَةِ الْخَرَاجِ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ خَرَاجُ كُلِّ أَرْضٍ مُعَيَّنًا أَوْ لَا خَرَاجَ لِلشَّاهِدِ تُقْبَلُ، وَكَذَا أَهْلُ قَرْيَةٍ شَهِدُوا عَلَى ضَيْعَةٍ أَنَّهَا مِنْ قَرْيَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا أَهْلُ سِكَّةٍ يَشْهَدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ السِّكَّةِ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ لَا تُقْبَلُ.
وَفِي النَّافِذَةِ: إنْ طَلَبَ حَقًّا لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ قَالَ لَا آخُذُ شَيْئًا تُقْبَلُ، وَكَذَا فِي وَقْفِ الْمَدْرَسَةِ عَلَى هَذَا فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ.
وَقِيلَ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً تُقْبَلُ مُطْلَقًا.
وَفِي الْأَجْنَاسِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِ الشَّاهِدَيْنِ فُقَرَاءُ لَا تُقْبَلُ لَهُمَا وَلَا لِغَيْرِهِمَا.
وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُقَرَاءِ بَنِي تَمِيمٍ وَهُمَا فَقِيرَانِ الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ وَلَا يُعْطَيَانِ مِنْهُ شَيْئًا.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَ أَرْضَهُ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى فُقَرَاءِ قَرَابَتِهِ وَهُمَا مِنْ قَرَابَتِهِ وَهُمَا غَنِيَّانِ يَوْمَ شَهِدَا أَوْ فَقِيرَانِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا.
وَوَضَعَ هَذِهِ الْخَصَّافُ فِيمَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ.
قَالَ: وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَوْمَ شَهِدَا هُمَا غَنِيَّانِ قَالَ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُمَا إنْ افْتَقَرَا يَثْبُتُ الْوَقْفُ لَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا، وَكُلُّ شَهَادَةٍ تَجُرُّ نَفْعًا لِلشَّاهِدِ أَوْ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَوْلَادِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ لَا تَجُوزُ.